«جئتكم غازياً» مقولة مصطفى سعيد: الشخصيّة الرئيسة في رواية «موسم
الهجرة إلى الشمال» للطيّب صالح، قد تختصر سعي الطيّب صالح في أعماله،
التي دأب فيها على إبراز البيئة المحلية بكلّ ما فيها من محاسن ومساوئ،
ليغزو من خلال عرضه الرائع لها العالميّة، حيث اختيرت روايته بين مئة
رواية أكثر شيوعاً وقراءة ومكانة في الأدب العالمي في القرن العشرين.
ويعتبر هذا إنجازاً إعجازيّاً لكاتب عربيّ، كتب بوعي ومسؤوليّة عن تاريخه،
فجاءت روايته ـ شهادته، إدانة للشمال الغنيّ الذي يستقطب بمغنطته المعمية
أغلبية أبناء الجنوب البائس، جدليّة الشمال والجنوب، مأساة العصر التي
أرّخها الطيّب، وتنبّأ باستمرارها، حيث بطله يغرق في النهر وهو يحاول
الانتقام لنفسه من نفسه وممّا جُني عليه تاريخيّاً، كأنّه بذلك يحفّز
الآخرين على إنقاذ أنفسهم من الغرق وتخليص أهلهم من السقوط في شراك الشمال
المضلّلة..اليوم، نبيّ الرواية العربيّة، أو عبقريها، بحسب الكتاب
الذي أصدِر عنه، يرحل، تاركاً فجوة لن تُردَم بسهولة في عمارة الرواية
العربيّة، التي أسّس لها، وترسّخ اسمه فيها، من خلال استمرار مؤلفاته
متجدّدة، تُقرأ اليوم، كأنّها كُتبت خصّيصاً لليوم، وهذا ينمّ عن بعد نظر
من الروائيّ الذي استقرأ المقدّمات، وعرض المشاكل، إذ ليس بمقدوره،
كروائيّ، أن يوجد لها الحلول، أو أن ينفّذها، لأنّه لا يملك إمكانيات
كفيلة بذلك.. كفاه شرفاً أنّه عرضها بأمانة، من دون مواربة أو تجميل. هاجر
الطيّب، مرتاحاً من فوضى العالم ومن خرابه، إلى القلوب، لأنّ روائيّاً
مثله، لا يغيب عن الحضور بشكل مداوم، يكون الاستشهاد الدائم بآرائه
وأفكاره وتنظيراته في الرواية، يكون الرجوع إليه، لكونه نقطة ارتكاز
الرواية العربيّة، التي تشاهد تحوّلات وزحزحات، حيث يروَّج للاستهلاكيّ
الذي يلبّي مطالب العرض والطلب. على عكس المخربش، الذي دخل صومعة الشمال،
وزعزع طمأنينته الظاهرة، بإثارة الكثير من الأسئلة، التي ما يزال البحث
جارياً للعثور على أجوبة عنها.. متى وُلِد الطيّب صالح؟ ومتى
ارتحل؟ هي معلومات وتواريخ لا تضيف ولا تنقص، لأنّ الطيّب وُلد يوم ولدت
الرواية العربيّة، ولن يرتحل عن عوالم الرواية، فلا يعني غيابه الطبيعيّ،
تغيّب فكره، لأنّه سيكون دائم الحضور في كلّ محفل.. الطيّب صالح،
هاجر في موسم «موت ـ هجرة» العباقرة العرب في الوقت نفسه، تاركاً الشمال
والجنوب في معمعة المطامع والاستلابات.. الرواية العربيّة تفقد عرّابها
اليوم.. هو ذا موسم الهجرة.. تهاجر معك القلوب أيّها الطيّب الصالح..